HOME


من هم المؤرخون المراجعون
ولماذا يجب أن تعنينا "المحرقة" اليهودية

د. إبراهيم ناجي علوش

محتويات الكراس


مراجعو التاريخ وتساقط أدونيس وإدوارد سعيد ومحمود درويش

أسطورة المحرقة "الهولوكوست"

المؤرخون المراجعون في أوروبا والولايات المتحدة، وهم غير المؤرخين المراجعين في الكيان الصهيوني، مجموعة من المثقفين والعلماء والمناضلين الذين يذهبون مذاهب إيديولوجية مختلفة ويجتمعون على موقف مشترك هو دحض الأساطير المؤسسة للصهيونية وعلى رأسها المحرقة، أو "الهولوكوست" اليهودية.

المؤرخون المراجعون لا يقولون إن اليهود لم يذبحوا في الحرب العالمية الثانية في أوروبا، ولكنهم يفندون المزاعم الصهيونية التي تدّعي بأن قتل اليهود ليس له مثيل في التاريخ البشري، وبأن قتلهم جاء ضمن سياق برنامج نازي ألماني منهجي لإبادتهم. فعلى العكس من ذلك، اثبت العلماء المراجعون بطلان الادعاءات الصهيونية حول قضاء ملايين اليهود في غرف غاز مزعومة محكمة الإغلاق. كما كشف الباحثون المراجعون زيف الأرقام التي تقدمها مؤسسات مثل مركز سيمون وايزنثال الصهيوني في الولايات المتحدة حول الذبح الخيالي لستة ملايين يهودي، وأوضح الكتّاب المراجعون كيف مات بضع مئات الآلاف من اليهود في الحرب العالمية الثانية كما مات غيرهم، في حرب وصل عدد ضحاياها إلى خمس وأربعين مليون قتيل، منهم اثنين وعشرين مليون سوفياتي مثلا، ما عدا الجرحى والمشردين والمشوهين.

دفع المؤرخون المراجعون مقابل موقفهم هذا أثماناً غالية، كما دفع من قبلهم كل من وهب حياته لنشر الحقيقة، فتعرضوا لعمليات اغتيال، وللطرد من العمل في مراكز أبحاثهم وجامعاتهم، ولدفع غرامات مجحفة، ولحملات تشهير، ولحصار اجتماعي، واضطهاد سياسي مريع، لأنهم تجرأوا على المس بالأساطير الصهيونية التي تبرر وجود دولة "إسرائيل" والسياسات التي تنتهجها هذه الدولة. كل هذا طبعا في الغرب الذي يتبجح بالتزامه بمبادئ حقوق الإنسان والحيوان والنبات، والذي غالبا ما يغطي تدخلاته في العالم الثالث بعباءة الدفاع عن هذه الحقوق. ولكن ما يحق للصهاينة لا يحق لغيرهم، والمؤرخون المراجعون كانوا ومازالوا بصدد القيام بما لا يقل عن انتفاضة في ميدان التأريخ للقرن العشرين، لذلك حق عليهم أن ينالهم ما ينالهم من سخط الصهاينة وحكومات الدول الغربية.

إن حساسية أسطورة "المحرقة اليهودية"، وحق أن نسميها "المخرقة اليهودية"، تنبع من عوامل كثيرة أهمها:

  1. إن إثارة ما يسمى بالمحرقة أو "الهولوكوست" بشكل يومي وواسع في وسائل الإعلام والترفيه والتعليم الغربية، رغم مرور اكثر من خمس وخمسين عاما على ما زعموا، يطرح بشكل ماثل ضرورة إيجاد ملجأ آمن لليهود في مكان ما من هذا العالم. حتى أن الاعتراف بالمحرقة أصبح يعادل الاعتراف بضرورة وجود "إسرائيل"، وليس فقط حقها بالوجود.
  2. إن المبالغة بشأن ما يسمى بالمحرقة، والمغالاة في هذه المبالغة، وجميع هذه الترهات عن الأهوال التي لاقاها اليهود بشكل فريد من بين غيرهم من الأمم (لاحظوا الفرضية الخاطئة هنا بأن اليهود قومية أو شعب متجانس، وليس ديانة مثل الإسلام أو المسيحية أو البوذية تنضوي تحت لوائها مجموعة من الشعوب والقوميات)، تقدم كلها مبررات للحركة الصهيونية ولدولة "إسرائيل" لتجاوز كل الأعراف والقوانين والشرائع الدولية والدينية والدنيوية، تحت حجة أن أي شي يفعلونه من اغتصاب فلسطين إلى مجازر صبرا وشاتيلا إلى محمد درة، قليل قياسا بما لاقوه من ظلم. ومن أراد أن يفهم ردة فعل الرأي العام الغربي الضعيفة تجاه ما يرتكبه الصهاينة، فإن عليه أن يبدأ بهذه المسألة، مسألة موقع المحرقة الأسطوري كما كرسه الصهاينة في العقل الجمعي الغربي.
  3. إن المحرقة المزعومة أصبحت كنزاً لا يفنى بالنسبة للحركة الصهيونية من حيث كونها أداة لابتزاز الدعم العاطفي والمالي والسياسي لدولة الكيان الصهيوني ولمواقف الحركة الصهيونية. إذ لولا أموال التعويضات لما استمرت الحركة الصهيونية. وما زالت عمليات الابتزاز باسم ضحايا اليهود في المحرقة المزعومة مستمرة.

ولا يعتقدن أحد بأن أسطورة المحرقة مهمة بالنسبة للحركة الصهيونية وحدها، فهي لا تقل أهمية بالنسبة لمراكز صنع القرار السياسي والاقتصادي في الغرب لتبرير السياسات الداعمة للصهيونية أمام شعوبها، إذ لا يجوز أن نبرأ قوى الهيمنة الخارجية من الجرائم التي ترتكبها لتحقيق مصالحها في بلادنا تحت حجة أن الصهيونية ساقتها إلى هذه السياسات وأنها مغلوب على أمرها. فالعكس هو الصحيح، فأسطورة المحرقة تساعد حكومات الغرب وشركاته الكبرى على تبرير سياساتها الإجرامية في بلادنا أمام شعوبها، ومن هنا تأتي خطورة المؤرخين المراجعين. 

المهم، عقد المؤرخون المراجعون العزم على القيام بمؤتمر لهم في بيروت بين 31 آذار و 3 نيسان عام 2001، فاجتمعت عليهم كل الحركة الصهيونية بيمينها ويسارها وحكومة الولايات المتحدة والحكومات الأوروبية وبعض الحكومات العربية بهدف وأد مؤتمر تم اختيار مكانه لإبداء التضامن مع الشعب اللبناني بعد تحرير جنوبه، ومع الانتفاضة الفلسطينية. ومع أن لا علاقة للدولة اللبنانية بهذا المؤتمر، باعتبار الجهات التي ترعاه جهات غير رسمية، فأن وزارة الخارجية الأمريكية والحكومات الأوروبية فرضت على الحكومة اللبنانية أن تمنع المؤتمر بالقوة، وكانت حكومة السيد رفيق الحريري مطواعة، سهلة القياد، لينة تحت الضغوطات، فمرّغت بذلك سجلها ولطخت وجهها الوطني بالوحل. 

لكن هذا الهوان ليس أسوأ ما في الأمر، فقد تعودنا على سلوكيات الأنظمة العربية، ولا يجوز أن نتعود عليها. إن أسوأ ما في قصة إلغاء مؤتمر المؤرخين المراجعين المؤيدين للقضية العربية في بيروت هو البيان الذي أصدرته حفنة من المثقفين العرب الطامحين بالعالمية واللاهثين وراء جائزة نوبل والمدعين الدفاع عن حرية الرأي والتعبير. هؤلاء أصدروا بياناً هللت له وسائل الإعلام الغربية والصهيونية، طالبوا فيه الحكومة اللبنانية بالتدخل لمنع مؤتمر المؤرخين المراجعين "المعادي للسامية وغير المقبول"، حسب اللوموند الفرنسية يوم 15/3/2001 

إن هذا المؤتمر سيدافع عن النازية وجرائمها ضد اليهود، باسم الضحايا الفلسطينيين والعرب وأن هذا المؤتمر يهدف لتزوير التاريخ، هكذا قال جوزيف سماحة في صحيفة الحياة. أما المثقفون الانتهازيون الواردة أسماءهم في ذيل البيان فهم الشاعر محمود درويش والكاتب إدوارد سعيد والشاعر أدونيس والمؤرخ محمد حربي من الجزائر والكاتبان فايز ملص وفاروق مردم بيه من سوريا وإلياس خوري وصلاح ستيتية وجيرار خوري ودومينيك اده من لبنان وجميل الدين بن شيخ من الجزائر ومحمد برادة من المغرب والياس صنبر وخالدة سعيد ادعوا في توقيعاتهم الانتساب لفلسطين..فيا للعار .  


بين الإبداع الأدبي والسجل السياسي

أربعة عشر مثقفاً عربياً إذن، على رأسهم أدونيس ومحمود درويش وإدوارد سعيد، سارعوا إلى إدانة المؤتمر الذي كان سيعقده المؤرخون المراجعون في بيروت في نهاية آذار/مارس2001، وطالبوا الحكومة اللبنانية بمنع عقده قائلين إنه مؤتمر "معادي للسامية"، وعلى حرية الرأي والتعبير ألف سلام مع العلم بأن تهمة العداء للسامية الموجهة للمؤرخين المراجعين لا تنبع إلا من عدم قبولهم لأسطورة المحرقة التي تستخدمها الحركة الصهيونية لابتزاز الدعم المالي والمعنوي والسياسي من الحكومات والشركات الغربية والرأي العام الغربي، ولتبرير وجود "إسرائيل"، ولتبرير وجودها فوق أي قانون.

تهمة معادة السامية بحد ذاتها طبعا جزء من لعبة التضليل الصهيونية، وهي غير دقيقة على الإطلاق عندما توجهها الحركة الصهيونية لأعدائها، فالعرب مثلاً من الأقوام السامية، فكيف يمكن أن توجه تهمة العداء للسامية لمن يؤيدونهم، كما توجه اليوم للمؤرخين المراجعين؟ كما أن اليهود الغربيين، أو الأشكناز، من الخزر القادمين من آسيا الوسطى، اعتنق ملكهم اليهودية لأنه وجد مملكته تحيط بها الخلافة العربية الإسلامية من الشرق، والروم المسيحيين من الغرب، فلم يرغب بأن يخضع لأي منهما، فأعلن مملكته مملكة يهودية لأسباب سياسية، بشكل حديث نسبياً، أي بعد الرسالة الإسلامية بمئات الأعوام، وبقي شعب تلك المملكة الخزرية على اليهودية، والناس على دين ملوكهم، كما يقال. واليهود القادمون من روسيا وبولونيا، واليهود الذين زعم أنهم ذبحوا في ألمانيا في الحرب العالمية الثانية، وبيريز ورابين وباراك ومن لف لفهم، كلهم من الأشكناز، لا علاقة لهم بالأقوام السامية لا من قريب ولا من بعيد، كما توضح المراجع العلمية الموثقة، ومنها مثلاً كتاب "القبيلة الثالثة عشر"، للباحث ارثر كوستنر، الذي ترجم مؤخراً إلى العربية، ولم تطأ أقدام أجدادهم فلسطين يوماً لا كغزاة ولا كعابري سبيل، ولا تربطهم صلة رحم بالعبرانيين أو اليهود الشرقيين، وحين جاؤوا إلى فلسطين مع المشروع الاستعماري في القرن العشرين، بنوا دولة جعلوا من اليهود الشرقيين فيها، أي اليهود العرب، مواطنين من الدرجة الثانية. فهؤلاء اليهود الأشكناز القادمين مع الاستعمار هم الذين يصح أن يقال فيهم أنهم معادون للسامية، لأنهم قتلوا العرب الساميين وطردوهم من أرضهم، ولأنهم جعلوا من اليهود الساميين فعلاً، أي اليهود العرب، مواطنين من الدرجة الثانية. أما المؤرخون المراجعون، فمعادون للصهيونية، ومن موقع علمي ينطلق من استخدام العلم وتطبيقاته لدحض الأساطير التي تقوم عليها الصهيونية.

مهما يكن من أمر، فلنفترض أن كل ما يقال عن المؤرخين المراجعين في الغرب، من عدائهم المزعوم "للسامية"، إلى عنصريتهم الدفينة، صحيح مائة بالمائة، أو ليس لدى مثقفينا الأربعة عشرة معركة يخوضونها أهمّ من هذه؟ وعلى افتراض أن ما يسمى بالمحرقة قد وقع فعلاً، وأن المؤرخين المراجعين ينكرونها، عنوةً، ويتعرضون لأشد اضطهاد من جراء ذلك، فيصرون على موقفهم من قبيل العناد والحمق والجهل، فأي الأمرين أشد خطراً على الفلسطينيين والعرب اليوم: أمر "المحرقة" التي ربما حدثت قبل أكثر من نصف قرن فانتهى أمرها، سواء اعترف بها المؤرخون المراجعون أم لم يعترفوا، أم أمر استخدام ما يسمى بالمحرقة من قبل الحركة الصهيونية لتبرير احتلال فلسطين، ولابتزاز الرأي العام الغربي الآن؟ وهل يستفيد العرب أم يتضررون من المساهمة في محاصرة الذين يستخدمون العقل والعلم لتدمير الأساس الأسطوري الذي تقوم عليه دولة الاحتلال اليوم؟! وفي النهاية، الاحتلال قضية راهنة، أما "المحرقة" فتاريخ مزور يهدف إلى تبرير ظلم راهن، وقد وقع مثقفونا الأربعة عشر، وعلى رأسهم محمود درويش وإدوارد سعيد، في فخ تبرير هذا الظلم الراهن. وهم في سعيهم الجاد لنيل جوائز نوبل، وفي لهاثهم وراء "العالمية"، وفي كدهم لإغواء الغرب، لم يتورعوا عن السماح للحركة الصهيونية باستخدامهم لتزييت آلتها الإعلامية، ولم يترددوا في تقديم أسمائهم خرقاً لتلميع أحذيتها السياسية.

فليكن واضحاً، إن كان ثمة حاجة للإيضاح، إن النقد الموجه أعلاه للسادة محمود درويش وإدوارد سعيد وباقي الموقعين على البيان المعادي لحرية الرأي والتعبير، الذي يطالبون فيه الحكومة اللبنانية بالتدخل لمنع مؤتمر المؤرخين المراجعين من الانعقاد في بيروت، هو نقد سياسي موجه ضد سلوك سياسي محدد، بغض النظر عن هوية من يمارس هذا السلوك، وعن نشاطه الثقافي أو الإبداعي، وبغض النظر عن أعماله الفكرية أو الشعرية. ولا بد لنا في سياق نقد هذا الموقف السياسي، اللاديمقراطي، والمتساوق مع المشروع الصهيوني، أن نفصل مثلاً ما بين قصائد محمود درويش الأولى أو أعمال إدوارد سعيد في النقد الأدبي، والموقف السياسي المدان الذي يستغل فيه المثقف اسمه لتقديم تنازلات خطيرة على الأسس والمبادئ، من أجل تحسين موقعه كمثقف. وفي النهاية، فإن المساهمات الثقافية، مهما بلغ تميزها، لا يمكن أن تجعل الموقف والسلوك السياسي لصاحبها فوق النقد، على العكس من ذلك، تبقى أهمية أية شخصية أو حزب أو منظمة نابعة في السياسة من الدور الذي تلعبه في خدمة مصلحة الأمة، ومن الدرجة التي تتناغم فيه مواقفها مع الخط المبدئي الواضح. في السياسة وفي القضايا العامة لا وجود للبقرات المقدسة، ولا بد أن يتم الحساب بناءاً على مقياسين: 

  1. أين يقف المرء تجاه القضايا الأساسية المطروحة في الساحة؟ 
  2. ما هو سجله السياسي؟

قد يكون محمود درويش شاعراً تطرب الأذن لقريحته. ولكنّ هذا لا يغير الموقف من دوره في فتح أبواب التطبيع على مصراعيها عندما ساهم بكسر حاجز العداء النفسي مع صهاينة من حزبي المابام والماباي في أوروبا الشرقية في أواخر الثمانينات في حواراتٍ أجراها مع هذين الحزبين اللذين كان لهما الدور الأساسي في تأسيس الكيان الصهيوني، كما أنه التزم سياسياً بالعمل تحت مظلة ياسر عرفات!! فقصائد درويش يجب أن تقيّم أدبياً وشعرياً، وسلوكه السياسي يقيّم سياسياً.

وما يصح على الشاعر محمود درويش إبداعياً يصح على غيره من الموقعين على البيان المشؤوم ضد المؤرخين المراجعين. إدوارد سعيد مثلاً وضع مؤلفات متميزة مثل "الثقافة والإمبريالية"، و"الاستشراق"، يمكن تقييمها من منظور إيديولوجي بشكل نقدي ، ولكنه أيضاً اشتهر بدعوته لتقبل الاستيطان الصهيوني في فلسطين، وللتعايش مع العدو، وأدان العمليات الاستشهادية، والعمل العسكري عامة، وشارك في العديد من النشاطات التطبيعية، ودعا العراق للالتزام بقرارات الأمم المتحدة وهو يتعرض لخطر العدوان مجدداً عام 1998، وشن حملة شعواء على المفكر روجيه غارودي، يشكل البيان الأخير ضد المؤرخين المراجعين الاستمرار الطبيعي لها.

والنقطة التي لا يعيرها البعض مقداراً كافياً من الأهمية وهم يهيمون إعجاباً بالموقع الذي وصل إليه بعض هؤلاء المثقفين العرب في الغرب، هي أن الموقع الثقافي يرتبط باعتبارات سياسية، تتعلق بالموقف من الصهيونية أساساً، فمن لان تجاه الصهيونية، يمكن أن يُنظر بعين الاعتبار لكفاءته، والمعضلة تبقى عند هؤلاء المثقفين: إيجاد طريقة للتعامل مع الصهيونية ترضي الغرب، ولا تسقطهم أمام الشعب، فيصبح الحل لديهم نشر ثقافة الهزيمة والتسوية والتطبيع.. 


عريضة مزوّرة؟

كان من المفترض إذن أن ينعقد مؤتمر للمؤرخين المراجعين في بيروت يوم 30 آذار/مارس، ولكن الحكومة اللبنانية منعته بسبب الضغوطات التي مورست عليها من قبل الدول الغربية في وقت كانت تحاول فيه إعادة جدولة ديونها الضخمة. وقد ساهمت عريضة مذيلة بتوقيعات أربعة عشر كاتباً ومثقفاً عربياً، على رأسهم محمود درويش وأدونيس وغيرهم، بتقديم الغطاء السياسي والثقافي لمنع مؤتمر المؤرخين المراجعين في بيروت، تحت حجة أنه معادٍ للسامية، وهي التهمة التي توجه دائماً لكل من يعادي الصهيونية. فكانت هذه العريضة الموجهة للحكومة اللبنانية من أجل حثها على منع عقد مؤتمر مراجعي التاريخ هي الواجهة التي اختفت خلفها عملية قمع حرية التعبير وعملية التساوق مع مطالبة الحركة الصهيونية العالمية بمنع مؤتمر المؤرّخين المراجعين.

ولكن، تبين فيما بعد أن العريضة التي وجهت للحكومة اللبنانية كانت مزورة حسب تصريح للدكتور إدوارد سعيد لصحافية أردنية سألته عن موضوع توقيعه على العريضة الآنفة الذكر. الدكتور إدوارد سعيد قال لها أن النص الذي قرأ للموقعين على الهاتف، كان يختلف عن النص الذي نشرت مقتطفاته في جريدة اللوموند يوم 15 آذار/مارس، ووسائل الإعلام الأخرى. وأضاف إدوارد سعيد أنه لا يملك نسخة حتى الآن من أيٍ من النصين، وأن الموقعين على العريضة لم يعرف معظمهم أنه سيوقع طلباً لحكومة عربية بمنع حرية التعبير.

هذا السبق الصحفي قامت به الصحافية سماء ماجد أبو شرار، وقد سألت إدوارد سعيد عن موقفه من المشكلة لأنها لم تكن لتصدق بأن إدوارد سعيد يمكن أن يوقع بياناً يطالب بمنع مؤتمر فكري، وهو الأمر الذي يشكل انتهاكاً لحرية التعبير، حتى ولو اختلف مع آراء وتحليلات المؤرّخين المراجعين. وفي النهاية، لا تحتاج الأنظمة العربية للكثير من التشجيع في هذا المجال.

فيما يلي، تجدون رد إدوارد سعيد على تساؤلات سماء أبو شرار، مع الأخذ بعين الاعتبار أنه خولَّها في ردَّه باقتطاف ونشر هذا الرد بكليته أو بأجزائه.

حرصاً على موضوعية المعالجة، أقوم فيما يلي بترجمة رد إدوارد سعيد حرفياً، بدون أي تعديلات، لعل الذين أيدوا منع مؤتمر المؤرخين المراجعين يتعظون مما جاء فيه، رغم قناعتي التامة بأن الحري بمن أضيفت أسماؤهم على عريضة لا يؤيدونها أن يعلنوا على الملأ موقفهم من ذلك. فكل من جاء اسمه في أسفل هذه العريضة المشينة يتحمل مسؤولية ما جاء فيها ما لم يعلن موقفه منها علناً، وللتاريخ..

نص رسالة إدوارد سعيد الموقعة بتاريخ 2 نيسان/إبريل 2001:

ليس لدي ولم أر أبداً المذكرة. فقد تم الاتصال بي على الهاتف، وأخبرت بأنه ليس هناك وقت لإرسال نسخة لي لكي أراها. طلب مني أن أوافق على النص من اجل توقيعه، ففعلت، بشرط، أن لا تكون هناك أية مطالبة لأية حكومة بصدد منع المؤتمر. فأنا لا أومن أولاً بمخاطبة الحكومات، ولا أؤمن ثانياً بمطالبة الحكومات بمنع أي شيء، فما بالك بمطالبتها بمنع المؤتمرات والكتب وما شابه!

وبما أني كنت شخصياً ضحية لهذا النوع من القرارات الحكومية، فإنني لا يمكن أن أضع نفسي في موقف من هذا النوع. لقد كنت واضحاً في هذا الشأن. ولكني فوجئت عند ظهور البيان وهو يحمل طلباً لحكومة الحريري بمنع المؤتمر. فقد كان كل ما وافقت على توقيعه هو بيان يدين عقد هكذا مؤتمر في بيروت.

أكرر، لم اطلب من أية حكومة أن تمنع المؤتمر، ولا يمكن لي أن أتقدم بمطلب كهذا. وقد أضيف هذا المطلب ضد رغبتي وبدون معرفتي.

إني أعارض ناكري "المحرقة" بقوة، ولكنني أعارض بالقدر نفسه من القوة، حرمان أي إنسان من حرية التعبير بمرسوم حكومي.

لقد كان هذا الأمر نقضاً رهيباً للعهد، وقد قامت مجموعة صغيرة من "المثقفين" (المزدوجين حول مثقفين من إدوارد سعيد) العرب الفرانكوفونيين، بكل بساطة، بخيانة ثقتي. وحتى هذا اليوم لم تكن لديهم اللباقة الكافية ليرسلوا لي نسخة من البيان الذي يفترض أنني وقعته.

بإمكانك استخدام بعض أو كل ما جاء من المعلومات الواردة هنا..

مع تحياتي 

إدوارد سعيد

[نهاية رسالة الدكتور إدوارد سعيد]

ولكن هل تشكل رسالة إدوارد سعيد الآنفة الذكر إعلاناً بسحب توقيعه على العريضة المذكورة التي تطالب الحكومة اللبنانية بمنع مؤتمر المؤرخين المراجعين؟ هناك من يقول لا، باعتبار أن إدوارد سعيد أكد على موقفه المناهض للمؤرخين المراجعين فيها. ولكن مناهضة المؤرخين المراجعين، وهو موقف نختلف فيه معه، شيء لا يتساوى بالضرورة مع مطالبة الحكومة اللبنانية بحرمانهم من حقهم في التعبير، وهو المطلب الأساسي في العريضة، والشيء الأساسي الذي يعارضه إدوارد سعيد، وهو وإن لم يسحب توقيعه رسمياً عن العريضة، فقد قام على الأقل بسحب غطائه المعنوي عنها، وهو المثقف ذو الوزن الكبير عربياً ودولياً، فلا بد لنا إذن، أن نحييه على موقفه هذا، في الوقت الذي ندعوه فيه للمزيد ونواصل الحوار معه حول المؤرخين المراجعين، فاتهام المؤرخين المراجعين باللاسامية هو الذي يشجع الحكومات الغربية والحركة الصهيونية على اضطهادهم، وإدانة عقد مؤتمرهم في بيروت، وهو الذي يقدم الذريعة لمنع هذا المؤتمر.

على كل حال، كان الدكتور إدوارد سعيد، وبغض النظر عن مواقفه السياسية الأخرى، أكثر تفاعلاً وتأثراً بموجة السخط العارمة التي تلت ظهور بيان المثقفين الأربعة عشر الذي يطالب الحكومة اللبنانية بمنع مؤتمر المؤرخين المراجعين.

وفي صحيفة الوطن السعودية، قام أدونيس ومحمود درويش بالتأكيد على موقفيهما من العريضة والإصرار عليه، مما يشكل إيغالاً في التساقط... 


ندوة رابطة الكتاب الأردنيين واللوبي الصهيوني

انتقلت المعركة ضد المؤرخين المراجعين خلال الأسبوع الممتد بين 7 و 13 نيسان/إبريل 2001 إلى أرض الأردن، فقد حدثت مجموعة تطورات خلال ذلك الأسبوع على جانب كبير من الأهمية. وخلاصة هذه التطورات أن رابطة الكتاب الأردنيين قررت عقد ندوة عن مراجعي التاريخ في مقرها في عمان يوم الأحد الموافق 8 نيسان/إبريل، فقامت جهات أمنية باستدعاء المتحدثين في تلك الندوة ومدير الجلسة يوم 7 نيسان/إبريل، وأبلغتهم من خلال محافظ عمان، السيد طلعت النوايسة، بضرورة تأجيل الندوة إلى ما بعد عودة جلالة الملك من زيارته في الولايات المتحدة، إذ يمكن أن تتسبب الندوة بإحراجه هناك.

وقد تم إبلاغ رئيس الرابطة، السيد فخري قعوار، بقرار التأجيل نفسه من خلال وزير الثقافة، السيد محمود الكايد، الذي قال أنه يتصرف بناءاً على تعليمات من رئاسة الحكومة من واشنطن مباشرة.

التزمت الرابطة بقرار التأجيل واحتجت في الآن عينه على تدخل مسؤولين من وزارة الداخلية في شؤونها الثقافية، وعلى استدعاء متكلمين في ندوتها، بعضهم أعضاء في رابطة الكتاب، دون أن يكونوا قد أخلوا بالقانون بأي شكل من الأشكال، هذا مع العلم أن ندوة رابطة الكتاب عن المؤرخين المراجعين كانت ستعقد تحت عنوان "ماذا جرى لمؤتمر المؤرخين المراجعين في بيروت؟"، وهو عنوان لا يتصل بالنظام في الأردن من قريب أو بعيد. كما أن رابطة الكتاب كانت تزمع طرح موقف ثقافي عربي أصيل من بيان الأربعة عشر مثقفاً عربياً الذي طالب الحكومة اللبنانية بمنع مؤتمر المؤرخين المراجعين في بيروت. فما الذي يجعل جهات رسمية أردنية تتدخل لفرض تأجيل ندوة رابطة الكتاب الأردنيين؟ وبأي معنى يمكن أن تشكل هذه الندوة إحراجاً في الولايات المتحدة؟ فإذا كان الإحراج نابعاً من قيام مواطنين أردنيين بممارسة حقهم الدستوري بالتعبير عن الرأي ضمن إطار القانون، فأن مجرد طرح موضوع ندوة رابطة الكتاب من قبل المسؤولين الأمريكيين أو غيرهم يشكل تدخلاً غير مقبول في السيادة الأردنية. أما إذا كان الإحراج نابعاً من موقف المثقفين الأردنيين الإيجابي من المؤرخين المراجعين وموقفهم السلبي من المثقفين العرب الأربعة عشر الذين قيل أنهم وقعوا البيان المشؤوم ضد مؤتمر المؤرخين المراجعين، فإن الإحراج لا مبرر له، باعتبار أن المؤرخين المراجعين يعقدون الندوات والمؤتمرات في الولايات المتحدة دون أي قيود قانونية، رغم الاضطهاد وعمليات الاعتداء التي تقوم بها المجموعات الصهيونية ضدهم هناك.

المشكلة في ندوة رابطة الكتاب الأردنيين إذن لا تتعلق بالإحراج، بل تتعلق باللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة والضغوطات التي يمارسها على الأردن مباشرة أو من خلال حكومة الولايات المتحدة. وهذا الأمر بالتحديد هو الذي يعطي المؤرخين المراجعين أهميتهم بالنسبة لنا. فهم يعملون على قطع دابر الابتزاز الصهيوني للرأي العام الغربي الذي يمكّن اللوبي الصهيوني من ممارسة ضغوطات من هذا النوع مستثمراً عقدة الذنب الجماعية الناتجة عن معاناة اليهود المزعومة في المخرقة [بالخاء].

المهم، انتشى اللوبي الصهيوني طرباً بسبب فرض تأجيل ندوة رابطة الكتاب الأردنيين في عمان، فأصدرت واحدة من أهم مؤسسات هذا اللوبي في الولايات المتحدة، وهي مؤسسة سيمون وايزنثال القائمة على متحف المحرقة، المسمى متحف التسامح، رسالة ودعوة مفتوحة من خلال الإنترنت إلى رابطة الكتاب الأردنيين. ويقول التصريح الصحفي الصادر عن المركز المذكور بتاريخ 11 نيسان/إبريل 2001: "نحن نرحب بقرار السلطات [الأردنية] بإجهاض هذا التجمع"، في إشارة لندوة رابطة الكتاب الأردنيين في عمان.

يضيف التصريح الصحفي الصادر عن المركز، على لسان الحاخام أبراهام كوبر Cooper العميد المساعد لمركز سيمون وايزنثال الذي قاد الجهود لإلغاء مؤتمر المؤرخين المراجعين في بيروت على ذمة التصريح الصحفي نفسه: "نلاحظ بأن رابطة الكتاب الأردنيين تخطط على ما يبدو لإدانة المثقفين العرب البارزين الذين أعلنوا موقفاً ضد إنكار الشواة [المحرقة – المترجم]، وأنهم يخططون لإعادة تنظيم ندوة عمان. عوضاً عن ذلك، فإننا في مركز سيمون وايزنثال، وكنا قد تشرفنا باستضافة الملك الراحل حسين في متحف التسامح في لوس أنجلوس، ندعو رئيس رابطة الكتاب الأردنيين لإرسال وفد لزيارة مؤسستنا، وللقاء الناجين من تلك الحقبة الرهيبة وجهاً لوجه. إذ بينما توجد لدينا مواقف متباينة تجاه السلام في الشرق الأوسط، فأن أصحاب النوايا الحسنة يجب أن يكونوا قادرين على العمل معاً لرفض المراجعة التاريخية واللاسامية، على حد تعبير الحاخام أبراهام كوبر.

ويبدو أن أبراهام كوبر أعتقد أن المثقفين العرب كلهم قابلون للتطويع، وأنهم يمكن أن يعاونوه في حملته ضد المؤرخين المراجعين، كما فعل المثقفون العرب الأربعة عشر، الذين تجاوبوا معه في دعوتهم الحكومة اللبنانية بمنع مؤتمر المؤرخين المراجعين في بيروت. ولكنه قرع الباب الذي لا يجيب هذه المرة، وإن أجاب، فإنه يجيب بما يرفض كل منطق التطبيع مع الصهاينة.

أرسل المؤرخون المراجعون رسائل إلى رابطة الكتاب الأردنيين يطالبون فيها أن تقبل الرابطة دعوة أبراهام كوبر بشرطين: الأول، أن تدعى وسائل الإعلام، الثاني، أن يضم وفد رابطة الكتاب الأردنيين ثلة من المؤرخين المراجعين. المؤرخون المراجعون علماء وباحثون ومؤرخون، تّم تهميشهم في الغرب وتعرضوا لأشد الاضطهاد، فهم يتحرقون شوقاً لمنازلة أدعياء المحرقة المزعومة بالعلم والحجج والتوثيق على مرأى ومسمع وسائل الإعلام.

لكن حسابات رابطة الكتاب الأردنيين غير حسابات المؤرخين المراجعين، فمعركة المؤرخين المراجعين هي معركة علماء مضطهدين يدافعون عن الحقيقة ويحاربون تزوير التاريخ، أما رابطة الكتاب الأردنيين، مثلها مثل كل المثقفين والمناضلين الشرفاء في الوطن العربي الكبير، فتعتبر أن معركتها تمتد على مساحات أكبر بكثير. وعندما تقتلع شجرة زيتون في الضفة الغربية أو شجرة ليمون في غزة، أو يغتال طفل فلسطيني برصاصة غادرة في وضح النهار، أو عندما تصادر أرض أو يهدم بيت، أو عندما يمنع مؤتمر للمؤرخين المراجعين في بيروت، أو عندما تنهار الدفاعات النفسية والثقافية في وجه الغزاة، فأن الرابطة تعتبر ذلك كله جزءاً من معركة واحدة ما زالت مستمرة منذ قرن. لذلك جاء رد رابطة الكتاب الأردنيين، دون فتح حوار مع الصهاينة، حتى لرفض دعوتهم، وكان الرد عملياً لا مكتوباً، إذ قامت الرابطة بتحديد موعد جديد لعقد ندوتها، وهو يوم الأحد 22 نيسان/إبريل عند السادسة والنصف في مقر الرابطة في عمان. أما المتحدثون فهم الذين تم استدعاؤهم المرة الماضية: حياة عطية، عرفات حجازي، ود. إبراهيم علوش، أما مدير الجلسة، فهو نفسه د. هشام غصيب. أما بيان الرابطة الذي يبدأ بالجملة التالية: "تدين رابطة الكتاب الأردنيين صدور بيان باسم 14 مثقفاً عربياً يدعو الجهات الرسمية اللبنانية لمنع مؤتمر المراجعين.."، فقد تمت ترجمته وتوزيعه على الإنترنت قبل دعوة أبراهام كوبر بساعات.

وجاء الرد بإلغاء ندوة الرابطة قسرياً للمرة الثانية على التوالي ... 

ثم عادت الرابطة وعقدت ندوتها أخيراً يوم 13/5/2001، وكانت تلك المحاولة الثالثة!



 



HOME                           اللغة العربية